اليوم الجمعة .. الجو حار وخانق في هذا العنبر المليئ بسرائر المرضى المكدسة بالزوار الذين جاءوا باكراً . فاليوم هو يوم الزيارات المفتوح .. كل سرير يحمل مريض واحد وأكثر من خمس أخرين جاءوا ومعهم أطعمتهم الكثيرة .. هي وحدها تجلس فوق سريرها وحيدة لم يأتي أحد لزيارتها .. شابة في الثامنة عشر من عمرها .. بيضاء نحيفة تتمتع بجمال الفقراء .. أجمل ما فيها شعرها الأسود الناعم المسترسل لما بعد جزعها .. لكن قلبها عليل منذ صغرها .. شاردة الفكر .. تتسائل لماذا تأخرت أمها اليوم عن زيارتها ؟ .. السرائر المجاورة بدأت تضيق بزوارها فبدأوا الزحف فوق سريرها .. فقامت تاركة لهم السرير وخرجت تجلس في المكان الذي يسمى حديقة المشفى والذي لا يحتوى إلا على بعض الحشائش التى نبتت عن طريق الصدفة ليس إلا .
***
قامت الأم منذ الفجر لتنهي ما لديها من عمل كلفها به زوجها .. هذا العمل اليدوي والذي هو مهنة الأب الذي يوكل معظم عمله للأم ويجلس هو ليدخن الشيشة ويشاهدها وهي منكبة على العمل .. انتهت هي من معظم العمل .. في نفس الوقت كانت تعد الطعام لإبنتها الكبرى التي ترقد في المشفي والتي يجب أن تذهب لزيارتها اليوم .. وأثناء أدائها لكل هذه الأعمال فإنها تحمل رضيعها البالغ عاماً في حجرها حتى لا يبكي .
إنتهت من إعداد الطعام وقد قاربت الساعة العاشرة .. وضعت الطعام في ذلك السبت الذي ستحمله فوق رأسها وتذهب به لإبنتها .. إرتدت جلبابها الأسود ولفت رأسها بالطرحة السوداء وقالت لزوجها :
- أنا ماشية رايحة المستشفى للبت .
- إنتي خلصتي الشغل ؟
- لسه شوية .. كمل انت لحد ما أرجع وأكمله .
- مش هتمشي إلا لما تخلصي الشغل .
- بس لو خلصته هتأخر ووقت الزيارة هيخلص والبت هتقلق لو ما روحتش دلوقتي .
- بقولك خلصي الشغل الأول .
- الشغل ما بيخلصش .. انا لازم أروح للبت .
نهض غاضبا حاملاً اقرب شىء طالته يداه .. وكان ابريق المياة النحاسي الذي تسكب له منه المياه كل صباح ليغسل وجهه وهو في سريره .. وأخذ يضربها به .. اتخذت هي وضع الجنين كل تحمي وجهها من الضربات حتى لا يظهر عليه أثار الضرب .. فجاءت معظم الضربات على ظهرها وقال لها :
- لو مشيتي .. مترجعيش على هنا .. روحي على بيت أمك .
لم تجيبه .. حملت السبت فوق رأسها .. وطفلها الرضيع بين ذراعيها ودموعها المنهمرة فوق وجهها وجبال من الآلم والعلامات فوق ظهرها .. متجهه نحو المشفى لزيارت إبنتها المريضة .
***
من بعيد رأت أمها تأتي مهرولة تنوء بأحمالها الكثيرة .. فقامت لتقابلها وتخفف عنها .. حيث أخذت منها الطفل الرضيع – أخوها – وسألت أمها :
- إتأخرتي ليه كده يا مه ؟
- على ما خلصت عمايل الأكل .
- لاء .. شكلك معيطة .. أبويا زعقلك ؟
- لاء يا بنتي .
- لاء شكله مزعقلك وضربك كمان .
لم تستطيع الأم أن تخفي ما بداخلها أكثر من ذلك .. لم تجيب إبنتها عن السؤال ولكن دموعها كانت إجابة كافية .. فبكت البنت أيضاً .. بعد قليل قامت الأم لتـُدخل بنتها لسريرها داخل العنبر الخانق المزدحم بالبشر .
***
عادت من المشفى على بيت أمها كما طلب منها .. والذي لا يبعد كثيرا عن بيت زوجها .. يفصل بينهم حارة واحدة .. حكت لأمها عما حدث اليوم .. والذي يحدث كثيراً وكل يوم .. حاولت أمها أن تطيب خاطرها بأن الرجال جميعا يضربن زوجاتهم .. بعد قليل جاء ولديها الأخرين يسألنا عنها .. حيث أرسلهم أباهم ليتأكدوا من أن أمهم عادت من المشفى علي بيت أمهم .. أحضرت الجدة الطعام لابنتها ولأحفادها .. مشى الولدين ليخبرا أباهم أن أمهم عادت .
وجلست الأم ترضع صغيرها من ثدييها .. وبجوارها تجلس الجدة العجوز .. وإذا بالأب يدخل غاضباً حاملا بيده عصا غليظة .. صاح فيها :
- إنتى إيه اللي جابك هنا ؟
- إنت مش قلت لي مترجعيش على هنا .. روحي على بيت أمك
- والشغل اللي في البيت ده مين اللي هيخلصه يا بنت الكلب .
ونزل فوقها بالعصا .. فحاولت الجدة أن تحمي إبنتها فجاءت العصا الأولي فوق ذراعها فشلها الآلم عن الدفاع عن إبنتها .. وجاءت باقي العصي فوق الأم التي حاولت ان تخفي الرضيع بين رجليها ولكن إحدى العصى فلتت من ظهرها لتستقر فوق رأس الرضيع .. الذي صدر منه صرخة واحدة وهمد بعدها .. توقف هو عن الضرب إثر تلك الصرخة التي صدرت من الرضيع .. تمسك الأم بالرضيع .. ترفعه .. تهزه .. ليس هناك اي رد فعل أو أي علامة من علامات الحياة .. تصدر عنها صرخة قوية .. يفر هو هاربا ويتجمع الجيران على صرخة الأم .
ليلتها يرقد الطفل في القبر .. وينام الأب في النقطة ليتم تحويلة للنيابة ومن ثم المحكمة .
***
تسير الأم المتشحة بالسواد ، تضم يدها لصدرها تحمل الهواء الذي كان يحتله طفلها الرضيع سابقاً .. وبجوارها أمها المجبورة الذراع .. ووبجوارها من الجهة الأخرى يسير أخوها الأصغر والذي أصبح كبير العيلة بعد رحيل الأب .. أخوها الذي ما زال يخدم بالجيش منذ تسع سنوات حيث شارك في حرب 1967 (حرب الستة أيام أو النكسة) عندما خسرت مصر سيناء ولا يعلم متى ستكون الحرب التي ستعود فيها سيناء .. لم يكن أخوها موجود وقتما قتل زوجها إبنها الرضيع .. ولكنه الآن معها أثناء توجهها للمحكمة للمثول أمام القاضي لتقص عليه ما حدث لطفلها .
يسألها أخوها :
- هتقولي أيه للقاضي ؟
- هقوله اللي حصل .
- طيب لما جوزك يتسجن ، مين اللي هيأكل الثلاث عيال ؟
تصمت .. فيكمل أخوها الحديث :
- لو قلتي إن جوزك اللي ضرب الولد .. هيتسجن .. وولادك مش هتلاقي اللي يصرف عليهم ولا يربيهم .. لو أنا مكنتش في الجيش وكنت بشتغل مكنتش خليتك محتاجة حاجة .. وكنت انا اللي هصرف على ولادك .. لكن الجيش مش راضي يسيبني والله وحده أعلم إمتى هخلص جيشي .
- طيب إنت شايف أعمل أيه ؟
- قولي للقاضي ان جوزك كان بيضربك ، وإنتى بتجري منه ، ابنك وقع منك على الأرض .. وقع على راسه فمات .
- لكن أنا مش عاوزه أرجع له .. هخرجه من السجن .. بس لا يمكن أرجع له .
***
يقف الأب فى قفص الإتهام .. ينادي حاجب المحكمة على إسم المتهم .. ثم اسم الزوجة .. يطلب منها القاضي أن تقترب لتحكي ما حدث لإبنها الرضيع .. قصت عليه الحكاية التي نصحها أخوها بها .. فحكم القاضى ببراءة الزوج .. وخرج من السجن .. وعادت هي لبيت أمها .. لم يتم الطلاق كما أرادت .. ولكنها مكثت ببيت أمها ثلاث سنوات وعادت بعدها لبيت زوجها تحت ضغط المجتمع والأهل .. وإستمرت الحياة .
***
قامت الأم منذ الفجر لتنهي ما لديها من عمل كلفها به زوجها .. هذا العمل اليدوي والذي هو مهنة الأب الذي يوكل معظم عمله للأم ويجلس هو ليدخن الشيشة ويشاهدها وهي منكبة على العمل .. انتهت هي من معظم العمل .. في نفس الوقت كانت تعد الطعام لإبنتها الكبرى التي ترقد في المشفي والتي يجب أن تذهب لزيارتها اليوم .. وأثناء أدائها لكل هذه الأعمال فإنها تحمل رضيعها البالغ عاماً في حجرها حتى لا يبكي .
إنتهت من إعداد الطعام وقد قاربت الساعة العاشرة .. وضعت الطعام في ذلك السبت الذي ستحمله فوق رأسها وتذهب به لإبنتها .. إرتدت جلبابها الأسود ولفت رأسها بالطرحة السوداء وقالت لزوجها :
- أنا ماشية رايحة المستشفى للبت .
- إنتي خلصتي الشغل ؟
- لسه شوية .. كمل انت لحد ما أرجع وأكمله .
- مش هتمشي إلا لما تخلصي الشغل .
- بس لو خلصته هتأخر ووقت الزيارة هيخلص والبت هتقلق لو ما روحتش دلوقتي .
- بقولك خلصي الشغل الأول .
- الشغل ما بيخلصش .. انا لازم أروح للبت .
نهض غاضبا حاملاً اقرب شىء طالته يداه .. وكان ابريق المياة النحاسي الذي تسكب له منه المياه كل صباح ليغسل وجهه وهو في سريره .. وأخذ يضربها به .. اتخذت هي وضع الجنين كل تحمي وجهها من الضربات حتى لا يظهر عليه أثار الضرب .. فجاءت معظم الضربات على ظهرها وقال لها :
- لو مشيتي .. مترجعيش على هنا .. روحي على بيت أمك .
لم تجيبه .. حملت السبت فوق رأسها .. وطفلها الرضيع بين ذراعيها ودموعها المنهمرة فوق وجهها وجبال من الآلم والعلامات فوق ظهرها .. متجهه نحو المشفى لزيارت إبنتها المريضة .
***
من بعيد رأت أمها تأتي مهرولة تنوء بأحمالها الكثيرة .. فقامت لتقابلها وتخفف عنها .. حيث أخذت منها الطفل الرضيع – أخوها – وسألت أمها :
- إتأخرتي ليه كده يا مه ؟
- على ما خلصت عمايل الأكل .
- لاء .. شكلك معيطة .. أبويا زعقلك ؟
- لاء يا بنتي .
- لاء شكله مزعقلك وضربك كمان .
لم تستطيع الأم أن تخفي ما بداخلها أكثر من ذلك .. لم تجيب إبنتها عن السؤال ولكن دموعها كانت إجابة كافية .. فبكت البنت أيضاً .. بعد قليل قامت الأم لتـُدخل بنتها لسريرها داخل العنبر الخانق المزدحم بالبشر .
***
عادت من المشفى على بيت أمها كما طلب منها .. والذي لا يبعد كثيرا عن بيت زوجها .. يفصل بينهم حارة واحدة .. حكت لأمها عما حدث اليوم .. والذي يحدث كثيراً وكل يوم .. حاولت أمها أن تطيب خاطرها بأن الرجال جميعا يضربن زوجاتهم .. بعد قليل جاء ولديها الأخرين يسألنا عنها .. حيث أرسلهم أباهم ليتأكدوا من أن أمهم عادت من المشفى علي بيت أمهم .. أحضرت الجدة الطعام لابنتها ولأحفادها .. مشى الولدين ليخبرا أباهم أن أمهم عادت .
وجلست الأم ترضع صغيرها من ثدييها .. وبجوارها تجلس الجدة العجوز .. وإذا بالأب يدخل غاضباً حاملا بيده عصا غليظة .. صاح فيها :
- إنتى إيه اللي جابك هنا ؟
- إنت مش قلت لي مترجعيش على هنا .. روحي على بيت أمك
- والشغل اللي في البيت ده مين اللي هيخلصه يا بنت الكلب .
ونزل فوقها بالعصا .. فحاولت الجدة أن تحمي إبنتها فجاءت العصا الأولي فوق ذراعها فشلها الآلم عن الدفاع عن إبنتها .. وجاءت باقي العصي فوق الأم التي حاولت ان تخفي الرضيع بين رجليها ولكن إحدى العصى فلتت من ظهرها لتستقر فوق رأس الرضيع .. الذي صدر منه صرخة واحدة وهمد بعدها .. توقف هو عن الضرب إثر تلك الصرخة التي صدرت من الرضيع .. تمسك الأم بالرضيع .. ترفعه .. تهزه .. ليس هناك اي رد فعل أو أي علامة من علامات الحياة .. تصدر عنها صرخة قوية .. يفر هو هاربا ويتجمع الجيران على صرخة الأم .
ليلتها يرقد الطفل في القبر .. وينام الأب في النقطة ليتم تحويلة للنيابة ومن ثم المحكمة .
***
تسير الأم المتشحة بالسواد ، تضم يدها لصدرها تحمل الهواء الذي كان يحتله طفلها الرضيع سابقاً .. وبجوارها أمها المجبورة الذراع .. ووبجوارها من الجهة الأخرى يسير أخوها الأصغر والذي أصبح كبير العيلة بعد رحيل الأب .. أخوها الذي ما زال يخدم بالجيش منذ تسع سنوات حيث شارك في حرب 1967 (حرب الستة أيام أو النكسة) عندما خسرت مصر سيناء ولا يعلم متى ستكون الحرب التي ستعود فيها سيناء .. لم يكن أخوها موجود وقتما قتل زوجها إبنها الرضيع .. ولكنه الآن معها أثناء توجهها للمحكمة للمثول أمام القاضي لتقص عليه ما حدث لطفلها .
يسألها أخوها :
- هتقولي أيه للقاضي ؟
- هقوله اللي حصل .
- طيب لما جوزك يتسجن ، مين اللي هيأكل الثلاث عيال ؟
تصمت .. فيكمل أخوها الحديث :
- لو قلتي إن جوزك اللي ضرب الولد .. هيتسجن .. وولادك مش هتلاقي اللي يصرف عليهم ولا يربيهم .. لو أنا مكنتش في الجيش وكنت بشتغل مكنتش خليتك محتاجة حاجة .. وكنت انا اللي هصرف على ولادك .. لكن الجيش مش راضي يسيبني والله وحده أعلم إمتى هخلص جيشي .
- طيب إنت شايف أعمل أيه ؟
- قولي للقاضي ان جوزك كان بيضربك ، وإنتى بتجري منه ، ابنك وقع منك على الأرض .. وقع على راسه فمات .
- لكن أنا مش عاوزه أرجع له .. هخرجه من السجن .. بس لا يمكن أرجع له .
***
يقف الأب فى قفص الإتهام .. ينادي حاجب المحكمة على إسم المتهم .. ثم اسم الزوجة .. يطلب منها القاضي أن تقترب لتحكي ما حدث لإبنها الرضيع .. قصت عليه الحكاية التي نصحها أخوها بها .. فحكم القاضى ببراءة الزوج .. وخرج من السجن .. وعادت هي لبيت أمها .. لم يتم الطلاق كما أرادت .. ولكنها مكثت ببيت أمها ثلاث سنوات وعادت بعدها لبيت زوجها تحت ضغط المجتمع والأهل .. وإستمرت الحياة .