21 June 2014

الخبز الجاف


وصل القطار الذي استقليته من مدينتي إلى محطة رمسيس في تمام الساعة الخامسة مساءا .. وهذا كان الموعد المحدد بيننا .. أسرعت نحو مدخل المحطة كي أصل إلى سلم المترو حيث المكان المتفق عليه .. لم أجده هناك .. لم نكن بعد في عصر الهواتف المحمولة .. وقفت في انتظاره .. مر أكثر من نصف ساعة .. اشعر بالخوف والقلق .. انظر في وجوه الماريين علني أجده قادم هناك .. إكتشفت أن عقلي لم يحتفظ بصورته .. فقد كان لقائي الأول به لقاء عابر لم يستغرق 10 دقائق .. ولم تنطبع صورته في ذهني .

أبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً .. ابحث عن الحب والحنان في حضن شخص من نفس جنسي .. ربما ليعوضني عن حنان لم أجده عند أبي .. 10 دقائق أخرى وسأنصرف عائداً من حيث أتيت .

- أسف حبيبي .. إتأخرت عليك؟

ألتفت لأجد رجل في منتصف الثلاثين من العمر .. إنه هو .. إبتسمت له ولم أجيبه بشئ .. يأخذني من يدي .. وأسير منصاعا لا أعرف إلى أين .

***

بجواري يقف في عربة المترو .. يقترب مني .. يعبر عن اشتياقه لي بصوت منخفض .. فقط ابتسم ولا أقوى على النظر له .. لا أدري كم مرة توقف المترو قبل أن نغادره .. نخرج من إحدى محطات المترو لأجد نفسي وسط سوق مزدحم بالبشر وبالخضروات والفاكهة .. يمسك يدي ويتخلل الزحام وأنا خلفه .

في إحدى عربات الميكروباص يدفعني ويجلس بجواري .. سألته : إلى أي مكان نحن ذاهبان ؟ أجابني ولكن اسم المكان لم يمكث في عقلي .. يقترب مني ثانية يخبرني أنه سيعطيني السعادة الليلة بلا حدود .. أبتسم له دون إجابة مني .. يبدو أنه مسرور بخجلي هذا .

ما يقارب الساعة ونحن لم نصل بعد للمكان الذي سيجمعنا سوياً .. بدأ الظلام يحل في الأفاق .. وستائر الخوف داخلي بدأت تغطي كل شئ .. وأخيراً وصلنا .

لا أدري أين نحن .. مكان يكسوه الظلام إلا قليل .. عمارات كثيرة حولنا ولكن لا أصوات ولا بشر .. ينقبض قلبي بشدة .. عقلي يسألني كيف ستعود ؟ ولكني لم أجد إجابة .. فسألته هو :

- إنني لا أدري كيف سأعود وحدي كل هذا الطريق .

أخبرني بأن لا أقلق وبأنه سوف يوصلني ولن يتركني أعود وحدي ولكن ليس الليلة بل غداً .. ينقبض قلبي للمرة الثانية .. وأتوقف عن السير قائلاً :

- ولكني لم أنوي المبيت عندك ولم أخبر أهلي أني سأتغيب للغد .

يسحبني من يدي .. محاولا تهدئتي .. راسماً لي كيف سنقضي الليل كله نرتشف الحب والسعادة سوياً .. شرحت له بأنني يجب أن اتصل هاتفياً بأهلي لأخبرهم بأنني سأنام الليلة عند أحد الأصدقاء .. فذهب بي لمحل بقالة به هاتف عمومي واتصلت بهم كي أطمئنهم .. ولكن من يطمئنني أنا ؟

***

يتحسس باب إحدي الشقق ليولج المفتاح بمكانه وانا أقف منتظرا في الظلام .. وينفتح الباب ويدخل هو لينير المصابيح ويناديني :

- إدخل .

دخلت لأجد مكانا خاليا من كل شىء ما عدا كرسيين أحدهما خشبي والأخر مغطي بجلد ممزق كان في الماضي جزء من طاقم انتريه .. وقطعة خشبية موضوعة بينهما تستخدم كمنضدة .

- إجلس .

قالها وهو يجلس على الكرسي الجلدي الممزق .. وجلست أنا على الآخر .. ثم نهض ودخل إحدى الغرف المظلمة وعاد بعد قليل بعد أن استبدل ملابسه أو بمعنى أدق تخلص من قميصه وبنطاله وعاد فقط بالملابس الداخلية .. سألني :

- هل أنت جائع ؟

لم أجيب عليه بالرغم من جوعي .. فانا لم أتناول شىء منذ الظهيرة .. شكرته .. لكنه لم ينتظر إجابتي ودخل مكان اخر اعتقد أنه المطبخ .. وسريعا عاد يحمل طبقاً ورغيفين من الخبز ووضعهم أمامي على تلك القطعة الخشبية التي تستخدم كمنضدة .. أعطاني رغيفاً وبدأ في كسر رغيفه .. كان الخبر جاف جدا وبدأ في طمس كسرات خبزه في الطبق الذي كان يحتوي على سائل بني اللون أعرفه إنه «المش» ذلك السائل الذي توضع به الجبن البيضاء كي تحفظ لمدة أطول وتصير الجبنة بلونها وتسمي «جبنة قديمة» .

- مش بتاكل ليه ؟

يسألني وهو يلوك لقيمات الخبز الجاف بين أسنانه .. تظاهرت بأنني أكل .. بالرغم من جوعي إلا أنني لم استطيع تناول أكثر من كسرتين وشكرته وتظاهرت بالشبع .. وسؤال يلح على عقلي .. نحن كنا منذ قليل عند محل البقالة .. لماذا لم يفكر في شراء اي شىء قابل للأكل طالما لا يوجد هنا ما يصلح للعشاء .. تمنيت لو اقترحت عليه ان ينزل لشراء طعام وأعطيه أنا النقود لذلك ولكني خفت أن يغضبه ذلك أو أن أجرح مشاعره .. بعدما فرغ من تناول رغيفة نهض ليعيد الطبق حيثما كان وسالني إن كنت أريد أن أحتسي شاي فأجابته بنعم .

***

نجلس أرضا في البلكونة المطلة على الظلام الممتد بعدما أعد كوبان من الشاي واشعل الراديو ونسمات من الهواء العليل مع صوت أم كلثوم الذي يصدح في هذا السكون :

«هات عينيك تسرح قي دنيتهم عينيه، هات ايديك ترتاح للمستهم ايديه .. يا حبيبي تعالى»

أخذني بحضنه بدأت أبكي .. عقلي لا يتوقف عن التفكير .. لماذا أنا هنا وأين أنا ؟؟ ماذا لو حدث لي مكروه هنا ؟؟ لن يعرف اهلي أين أنا .. من هذا الشخص الذي أنا بين يديه ؟؟ هل حقا يحبني كما يقول ؟؟ هو يفسر دموعي على أنها دموع سعادة .. ولكني أشعر بالرعب والخوف .

بدأت أشعر بالنعاس .. ليس نتيجة شعور بالأمان والراحة ولكنه كوسيلة للهروب من كل ما أنا فيه .. أخذني للداخل .. وفوق فراش مبسوط على الأرض مددني بعد أن جردني من كل ملابسي .. محاولات فاشلة في اقتحامي .. يزدادي شعوري بالنعاس ويزداد شعوره باليأس .

***

في الصباح استيقظ مبكرا .. بطني تؤلمني من الجوع .. اوقظه لكنه لا ينهض يخبرني ان اليوم أجازته .. أرتدي ملابس وادخل الحمام للمرة الأولي في هذا المكان .. اغسل وجهي واجلس على الكرسي الخشبي انتظره .. يمر الكثير من الوقت .. اوقظه مرة ثانية واطلب منه أن ينزل معي لشراء أي شئ أكله .. ينهض بتكاسل ويخبرني بأنه سيعد الطعام .

بعد خروجه من الحمام يحاول إثارتي جنسيا ويتحرش بي لكني أتخلص من ذلك :

- أرجوك أنا عايز أمشي .. انزل وصلني .

يتركني ويدخل المطبخ ويبدأ في إعداد الطعام .. يحاول تلطيف الجو بيننا .. يناديني .. المطبخ ليس به سوي موقد ومجموعة قليلة من الأطباق والأواني ولكنه مهتم بنظافتها .. يطلب مني مساعدته في إعداد الأرز .. أخبره بأنني أستطيع ان أطهوه وحدي .. فترك لي مهمة إعداده .. وخرج لا أعرف لأين وعاد بعد قليل ومعه قطعتين من لحم الدجاج .. سألته أين كان ؟ فأجاب بأنه كان عند الجيران يحضر منهم تلك القطعتين من الدحاج لأنه ليس لديه ثلاجة يحفظ بها هذه الأشياء .. رائحة الأرز أثناء طهوه زادت من احساسي بالجوع .. انتهيت من إعداد الأرز .. وانتهى هو من إعداد الدجاج .. قام بوضع الأرز في طبقين وفوقهم قطعتي الدجاج وخرج بهم حيث الكرسيين .. كان الوقت قد قارب الظهيرة .. تناولت طبقى كاملا .

طلبت منه أن أنصرف .. أرتدى قميصه وبنطاله وقادني للمكان الذي نزلنا به ليلة أمس من الميكروباص وتركني ومشى .. وقفت كثيرا في هذا المكان الشبه خالي من الناس حتى ظهر ميكروباص .. لا أتذكر كيف عدت إلى بيتي .




No comments:

Post a Comment

اشكرك على إهتمامك وتعليقك .. والإختلاف في وجهات النظر شئ مقبولة ما دام بشكل محترم ومتحضر .. واعلم أن تعليقك يعبر عنك وعن شخصيتك .. فكل إناء بما فيه ينضح .