17 May 2008

الخروج من الرحم

جلس في الكافتريا المفضلة و معه كتابه الجديد يقرأ وحيداً .. ليس هناك كثير من رواد الكافتريا فما زال الوقت مبكراً .. تلفحه نسمات الهواء الباردة .. يشعر بسعادة غامرة يستنشق ما تستطيع رئته من ذلك الهواء البارد المنعش .. يشعر بهذه الحالة منذ عدة ايام لدرجة انه يشعر ان رئته اتسعت عن الماضي بكثير .. لم يعد يخاف من الأحساس بالبرودة ذلك الأحساس الذي كان يسبب له الخوف و الحزن .

يترك كتابه قليلاً لكي يشرب عصير الليمون .. ما ألذه طعمه .. عصير ليمون بارد في هواء بارد و يشعر بسعادة .. كل هذه اشياء جديدة عليه .. يفكر في الموضوع الذي كتبه بالأمس عن حرب العيون و لكنه لم يقرر نشره .. كانت السعادة الناتجة عن احساسه بالقوة التي اجتاحته بعد بداية المرحلة الجديدة التي قرر بعدها ان يغير من شخصيته .. وجد ان قوة الإنسان تكمن في عينيه .. دوما كان يشعر انه مغمض العينين .. كان يخاف الناس و لا يجرؤ على النظر في عيونهم .. كان يشعر بأن عيون الأخرين قادرة على اختراقه و قراءة كل ما في داخله .. كان يمشي ف الشارع لا يري شىء .

لكنه دق طبول الحرب ضد باقي العيون .. أي عيون يصادفها رجال ، نساء ، شباب ، بنات ، اطفال كل العيون .. كانت عيناه في بداية الأمر ترسل أسهم الكراهية لهؤلاء البشر الذين عانى من خوفه منهم كثيراً .. نجح ان يهزم الكثير من العيون .. تلك العيون التي كان يهرب منها الأن يقهرها و يقهر الخوف داخله .. يملئه احساس بالانتصار و انه صار قوي لم يعد يخاف الناس يشعر انه أقوي الناس .. اصبحت الحرب هوايته المفضلة – النظر في عيون الناس – هناك عيون نوعا ما قوية تصمد قليلاً ثم تبتعد و لكن الغالبية العظمى تهرب سريعاً . يود ان يضحك و يصرخ من الفرح . ثم جاءت المرحلة التالية – مرحلة الاستقرار – لم يعد يهتم كثيراً بعيون الأخرين و لكنه اصبح مستعد لأي مواجهة في أي وقت .. بدأ يبحث داخله عن كل مواطن القوة التي لم يكن يستخدمها .

رن جرس الموبيل .. انه تامر .. و تلك النغمة الخاصة به . ترتسم ابتسامة عريضة على شفتيه و يظهر بريق في عينيه نتيجة تلك الدموع التي تداعبه عينيه .. يشعر بالسعادة .. يتذكر ليلة امس عندما اتصل بتامر و قال له انه سعيد لان ثمة تغيير يطرأ عليه و قال له انه يشعر انه قوي .. و انه ما زال يحبه و لا يهمه اذا كان هو يحبه ام لا و ان اعترافه له الآن ليس ضعفاً و إنما قوة فهو يحبه و لكنه لا يحتاج إليه .

يحمل داخله رغبة منذ عدة أيام انه يريد أن يذهب لمكان مليىء بالأشجار الخضراء .. يريد ان يستنشق اكبر قدر من الهواء النقي .. لديه احساس انه لم يستنشق هواء من قبل .. لم يعد يحب تلك الغرفة المغلقة المظلمة التي يقضي بها اطول وقت من حياته .. لا يعرف مكان بهذه المواصفات و لكنه لابد ان يحقق هذه الرغبة .

جلس يفكر قليلاً في تامر و تلك التجربة التي ابداً لم تكن مثل أي تجربة سابقة .. مشاعره لم تنقص .. اصابة الحزن عندما قرر تامر الابتعاد عنه لسبب لم يفهمه .. فالسبب كان عملية رياضية فلسفية معقدة .. و هي ان واحد زائد واحد يساوي اثنان .. هكذا يري تامر بينما يرى كريم ان واحد زائد واحد يساوي واحد .. يخاف تامر على حياته و شخصيته حيث يريد الاستقلال لا يريد ان ينتمي لأحد او ان يصير جزء من أحد .. كريم كان يرى ان حتى تلك العملية الحسابية واحد زائد واحد يساوي اثنان حقاً و لكن حتى الرقم اثنان هو في النهاية رقم واحد و ليس رقمان اي ان عملية الجمع جعلت من الرقمان رقم واحد فقط .. و انه لا يري أي مشكلة من أن يصبح الحبيبين جزء من بعض او ان يؤثر كلاهما في الأخر و لكن تامر لم يقتنع بهذا .

المهم بينما عقله يحاول تفسير العلاقة بينه و بين تامر و بين التغييرات التي طرأت عليه يتتضح امامه فكرة اذهلته :

ما هو شعور الطفل لحظة ميلاده بعدما يقضي العديد من الشهور داخل رحم امه ؟ هل يشعر بالحزن و الخوف لفراق هذا المكان الأمن الذي اعتاد عليه ؟ هل يحزن حينما يلفظه الجسد الذي كان جزء منه ؟ أيشعر الطفل بالرعب عندما يشعر ان هذا الجسد يلفظه بعيدا عنه لانه لم يعد يحبه ؟ هل يشعر الطفل بان حياته ستنتهي بعدما يخرج من هذا الرحم الذي كان يعطيه الحب و الحنان و الحياة ؟ هل يدرك الطفل بأن هذا الانفصال هو بداية حياته و ليست نهايته ؟

ما هذا ؟ يشعر بالذهول لهذه الفكرة .. ما هذا التطابق بينه و بين ذلك الجنين لحظة خروجه للحياة ؟ هل كان طوال حياته عبارة عن جنين ؟ هل عاش طوال عمره يبحث عن رحم يحتضنه و يقدم له الحب و الحنان و الحياة ؟

هل كان تامر ذلك الرحم ؟ فهو أول إنسان يشعر كريم بحبه له ، هل قبل تامر أن يقوم بهذا الدور الذي لم يستطيع احد من قبل القيام به ؟ هل حقاً كان العلاقة بينهم كعلاقة الجنين بأمه ؟ حيث كان كريم يعيش داخل تامر كجنين ينمو و يكبر .. حتى حينما تعرض تامر لمشكلة لم يكن رد فعل كريم كدفاع عن حبيبه بل كان دفاع عن النفس .. كان يعيش المشكلة بألامها معه .. فموت تامر معناه موته هو شخصياً .. هل حينما كان يقصد تامر انهم اثنان و ليسوا واحد و كريم يصر على انهم واحد و ليسوا اثنان .. هل كان يشعر انه جزء من تامر و انه مازال داخله يعيش تلك المرحلة ؟ فالجنين في رحم امه يعتبرا شخصاً واحداً .. هل حينما قرر تامر ان يبتعد عن كريم كانت هذه هي لحظة الميلاد بالنسبة لكريم .. تلك اللحظة التي لفظ فيها تامر بكريم إلي الحياة ؟ بالطبع الطفل يبكي لحظة ميلاده و يتألم لانفصاله عن هذا الجسد الذي امده بالحياة و الحب . و هذا ما حدث مع كريم .

هل لهذا اصبح كريم قادر على استنشاق الهواء بسعادة الآن ؟ هل اصبح قادر الآن على مواجهة الناس و النظر في عيونهم لانه خرج إلي الحياة و استطيع ان يستعمل عيونه و ان يتخلص من هذا الغشاء الذي كان يمنعه من مشاهدة تلك الحياة التي كان يسمع اصواتها و هو في الرحم ؟

هل لهذا لم تتغير مشاعره نحو تامر او نحو الجسد الذي حمله داخله في رحمه ؟ هل الأن اصبح الواحد اثنان ؟

ما زال يشعر بالذهول لهذا التشابه و التطابق بين حالته و حالة الطفل لحظة الميلاد و لكن كل ما يشعر به ، انه الأن ولد إلي الحياة و يشعر بسعادة غامرة .. أما بخصوص تامر فهو لن يستطيع الإبتعاد عنه .. حتى لو تخلت الأم عن طفلها فسوف يحمل الطفل داخله احساسه انها سبب وجوده في الحياة و سوف يحبها ما دام يحيى . كذالك سوف يظل حبي لتامر .