23 June 2007

الأجرة يا ست .. قصة قصيرة


" الأجرة يا ست " قالها ذلك الشاب الصغير الذي يعمل على العربة الأجرة التي استقلتها عائدة إلي بيتها . أسرعت بإخراج كيس نقودها و أعطت الأجرة للشاب و لكنها لمحت تلك الصورة التي تحتفظ بها دوما في كيس نقودها .

إنها صورتها هي عندما كانت في العشرين من عمرها , لم تكن فائقة الجمال و لكنها كانت مقبولة تتمتع بملامح جميلة سمراء البشرة ذات عينين عسليتين وتلك الشفتين الجميلتين التي كانت تحب دوما أن تضع عليهم زبدة الشفاه الحمراء فهي لا تستطيع أن تضع احمر شفاه خوفاً من أباها و أخيها و كانت ترتدي أحب الملابس إلى قلبها في هذا الوقت , ذلك القميص الأبيض الذي يظهر خصرها النحيل و صدرها المكتظ و تلك الجيب الحمراء المصنوعة من القطيفة .

و على الرغم من أن تلك الأيام لم تكن بالسعادة التي يتمناها أحد و لكنها أفضل حالاً مما تحيياه الآن . كانت فتاة بسيطة من أسرة متوسطة الحال , تحيى بين والديها و أخوة أربعة آخرون , كانت تنام فوق أريكة في حجرة المعيشة و كانت في ليالي الشتاء تشعر بالبرد حيث لا يوجد غير غطاء وحيد لها , لكنها كانت ترتدي ما تستطيع من ملابس حتى تشعر بالدفء .. بعدما أنهت دراستها المتوسطة أخذت تبحث عن عمل و التحقت مع بعض بنات الجيران للعمل في إحدى المصانع القريبة من بيتها .

لم تمر بتجربة حب , حيث الأب العنيف الذي كانت تخشاه جداً , و كذلك الأخ الأكبر الذي كان يحيى تجارب حب شتي مع مختلف الأنواع من البنات و حتى الزوجات . فهو من حقه ان يحب ويعشق و يفعل كل شيء أما هي لا تستطيع و كانت تجاربه تلك تجعله يشك فيها لأقصي درجة اعتقاداً منه أنها قد تفعل مثل تلك الفتيات التي يعرفهم .. عموما كانت أذكى من أن تضع نفسها في مشكلة , حيث لن يكون هناك من يدافع عنها , فهي ترى كيف يتعامل أباها مع أمها , حيث العنف و الضرب و الإهانة .

مرت سنوات من حياتها على هذا الحال , إلى أن تقدم لها أحد الرجال لطلبها للزواج , كان جوازاً تقليدياً , عن طريق إحدى القريبات . لم يكن هذا العريس من مدينتها , كان من قرية بعيدة لم تسمع عنها قبل هذا , و على الرغم من وجود أخت كبرى لها لم تتزوج بعد ، إلا أن الأهل لم يعترضوا على زواجها أولاً . رفضت الزواج بهذا الرجل لم تكن تعرفه و أيضا كانت تخشى من بعد المسافة بينها و بين أهلها . و لكن الأب القاسي حذرها و هددها .. كانت تبكي ليالي و لكن لم تجد من يقف بجوارها و لا حتى تلك الأم المقهورة التى كانت تقول لها أهو عريس و خلاص مش أحسن ما تعنسي .. كيف لهذه الأم ان تفهم معني أن ترتبط برجل تحبه و هي لم تجد من زوجها غير الأهانة و العنف و لا تعرف من الزواج غير هؤلاء الأولاد التي خرجت بهم من هذه العلاقة غير السوية .

كان العريس في الخامسة و الثلاثين و هي كانت في العشرين من عمرها . لم يعترض الأهل على هذا الفرق في السن . فالرجل لا يعيبه شىء كما يقولون .. سأل الأهل عنه و زاروه في بيته لمعرفته أكثر , بالطبع لم تكن الفتاة معهم في تلك الزيارة . قال العريس انه جاهز و مستعد للزواج في غضون شهرين . قال الأب و لكن هذا ليس وقت كافي لتجهيز مستلزمات العروس . قال انه لا يريد تكاليف كثيرة فهو يريد العروس فقط . بالطبع كان هذا كلام مجاملة . و سارع الأهل لتجهيز الفتاة بالقدر الذي يستطيعون حتى أن كثيراً من تلك المستلزمات جائوا بها عن طريق نظام التقسيط .

و جاءت ليلة الزفاف و ذهب العريس مع الأهل لإحضار العروس من الكوافير و عادوا إلى بيت أبيها و تم عقد القران و تم إشهار الزواج مع احتفال صغير في بيت العروس ثم بدأت العربات تنقل العروسين و الأهل إلي بيت العريس في تلك القرية البعيدة . و بدأت الفتاة تحسب الثواني و الأمتار بين بيتها الذي عاشت به عشرون عاماً و بين البيت الجديد . فهي لم تذهب إلي بيت العريس قبل هذا . و كلما زادت الثواني زادت دقات قلبها . و على الرغم أنها كانت تتمالك نفسها و تحبس دموعها إلا أنها لم تصمد طويلاً .. حيث انهمرت دموعها عند وصل العربة إلى تلك البلدة التي ستقضي بها ما تبقي لها من الحياة . و لكن صديقاتها حاولوا تهدئتها محاولين إصلاح ما أفسدته الدموع من الماكياج .

لم تكن تشعر بالفرحة التي تشعر بها كل الفتيات في ذلك اليوم , كان عقلها منشغل في أمور كثيرة غير الإحتفال الذي كان بجوار بيت العريس . كانت تفكر في ذلك الرجل الذي لا تعرفه جيداً و هؤلاء الناس الأغراب عنها التي سوف تحيى بينهم و ذلك المكان الذي لم تطؤه قدميها قبل هذا .

و انتهي الاحتفال و بدأت حياتها الجديدة , بكت الفتاة كثيراً عندما ذهب أهلها لزيارتها في اليوم التالي . و لكن أحداً منهم لم يشعر بها , لم يقدر أحد معنى أن تقتلع من جذورك و تلقي في مكان لا تعرف فيه أي إنسان حتى ذلك الرجل المفترض أن يكون الأقرب لها , و لكن ماذا تفعل ؟ سكتت و رضيت بحالها وحياتها الجديدة .

و لكن لم تستقر الحياة على هذا الحال , و بدأت المصائب و المفاجآت تأتي إليها واحدة تلو الأخرى .

بعد أسبوع من الزواج , لم تجد زوجها يستيقظ مبكراً ولا يتحدث عن انتهاء الأجازة و لا يذهب لعمله فسألته على استحياء :

" هي أجازتك هتنتهي امتى ؟ "
أجابها .. " لا عادي أنا بروح يوم و لا أتنين في الأسبوع امضي و خلاص "

إنابتها الدهشة فهي قد علمت من أهلها انه موظف في إحدي المجالس المحلية . سألته مرة ثانية " ازاي يعنى ؟ هو كده مش غلط عليك ؟ "

أجابها " دول 90 جنية في الشهر و فين و فين لما يقبضوني "

كتمت حسرتها و خوفها داخلها و لاذت بالصمت و انصرفت إلي المطبخ تكمل إعداد الفطور . و لكنها لم تشعر بالطمأنينة لهذا الكلام و قررت ان تكمل الحوار معه بعدما عادت بالفطور , قالت له مداعبة و لكن هذا لم يكن حقيقة ما بداخلها :

" أنا عاوزة أشوف المصنع اللي أنت قولت عنه .. بتاع تصنيع الملابس اللي أنت جبت لنا شوية ملابس منه علشان نشوف شغلك ، علي فكرة كنت عاوزة أقولك إن الفنش بتاع الملابس دي وحش جدا ، و لازم تجيب حد يكون كويس لإن الفنش ده أهم شيء في الملابس "

ضحك ضحكة عالية اصفر لها وجهها و انقض قلبها .. ثم استرسل في الكلام و قال لها :

" عندك حق و الله ما هو عشان كده المشروع فشل و اضطريت أبيع المكن و قولت أحاول أسوق الملابس الباقية و أدينا إتجوزنا بتمنها "

لم تستطيع ان تعلق علي كلامه بشيء سوى الذهول و الإحساس بالمرارة و خيبة الأمل التي اجتاحت كل ذرة في كيانها . و قد أحست أن الأيام القادمة ستكون أسواء و تمنت من الله أن يكون بجوارها .

بعد مرور شهرين من الزواج وجدته يقول لها انه يحتاج إلى مبلغ من المال وهو ليس لديه .. سألته لماذا يحتاج المال قال لها :

" عشان ادفع قسط القرض "
انفزعت و و قالت " أي قرض ؟ "
قال لها " قرض مشروع الملابس "

إذا فهو تزوجها بفلوس القرض و الآن لابد أن يسدد هذا القرض سألته " و هتعمل إيه ؟ "
أجابها " مش عارف .. بس يعنى .. ممكن تديني الدهب بتاعتك ابيعه و ادفع بيه القسط ده "

بالطبع حدثت مشكلة و ذهبت الفتاة إلى أهلها الذين أقنعوها انه يجب أن تساعد زوجها .. و بالفعل أعطته ذهبها ليبيعه .

الآن أدركت الفتاة أن أم زوجها و أرضها هي المورد الحقيقي لمعيشتها هي و زوجها .. و بدأت تلك الأم تفرض سيطرتها عليها .. فهي تعلم أنها هي من يطعمها و ليس زوجها و بدأت تعاملها كخادمة لها . و هذا الزوج المطيع لم يحاول أبدا أن يرفع عن زوجته أي بلاء أو إساءة توقعها أمه بزوجته . و على الرغم من انه وعد والد الفتاة أنها لن يكون لها أي دور في أعمال الفلاحة أو الغيط أو التعامل مع الحيوانات . إلا أن هذا الكلام تبخر مثل باقي الكلام .

لم تكن للفتاة أي خبرة في تلك الأعمال و لكن طبعا تلك السيدة الشمطاء أم زوجها دفعتها لتقوم بكل الأعمال . و بالطبع لم تستطيع الفتاة أن ترفض فهي الآن ليس لها من يدافع عنها هنا في هذا البيت الجديد كما لم يكن هناك من يدافع عنها في البيت القديم بيت أهلها .

و بدأت الحياة تسير بين الأزمات المتلاحقة و الإستدانة من الغير و الإحساس بالفقر الذي كان يزداد مع الوقت و مع زيادة الأعباء نتيجة لقدوم 4 أطفال . زادت معهم الحاجة و العوز و الأزمات المادية التي لا يخرجون منها أبدا . و ذلك الزوج كما هو غير متحمل للمسؤولية و قد ترك لها كل أمور الحياة و مشاكلها . و أصبحت هي المسئولة عن كل شيء . حتى أعمال الحقل أصبح هو مجرد مشرف عليها . أما هي فهي المسئول عن كل شيء .


الآن هي تبلغ من العمر ثلاثون عاماً إلا أن ملامحها تقول أنها قد تخطت الاربعين عاماً بسنوات .. فهي لا تتذكر أنها وقفت أمام المرآة تتزين منذ زمن , لا تتذكر أنها ارتدت ثوباً جديداً من زمن , ما زالت ترتدي ملابسها التي اتت بها من بيت ابيها عند زواجها , تلك الملابس التي أصبحت قديمة و لكنها تحاول إصلاحها دائما . لا تتذكر أنها وضعت ماكياج على وجهها من سنين . حتى أنها نسيت كيف لها أن تعتني ببشرتها التي أصابها الجفاف و التجاعيد مبكراً .

الكثر و الكثير من الذكريات تمر أمام عينيها و مشاعر مختلطة تنتابها لم تعد قادرة على وقف هذا السيل من الذكريات المؤلمة , حتى انتبهت لكلام الشاب " وصلنا يا ست " .


تمت الاشتراك بهذه القصة في مسابقة اكاديمية شبابيك

3 comments:

Anonymous said...

I must say that I don't find the story itself that amazing because it happens everyday in Egypt, but the way you narrated is the amazing part.

AMRO .O. ABDELHALIM said...

عزيزى كريم
من خلال السرد شعرت -عفوا- كم هو وغد هذا الزوج، شعرت ايضا كم هو كثيف وغامر ماتحس به تجاه السيدة من مشاعر
كنت موفقا فى حصر الشريط المحكى بين محطتى الذهاب والوصول
والكلمات تتقافز ملامسة للقلوب

Anonymous said...

رائع ياكريم وصفك لتفصيل حياة بطلة القصة
جميل انك راجل وحاسس اوى كدة بمعاناة ست من ملايين الستات فى مصر المقهورات
تسلم ايديك ع القصة

نـور الشمس

Post a Comment

اشكرك على إهتمامك وتعليقك .. والإختلاف في وجهات النظر شئ مقبولة ما دام بشكل محترم ومتحضر .. واعلم أن تعليقك يعبر عنك وعن شخصيتك .. فكل إناء بما فيه ينضح .